PostHeaderIcon نزيف بلا دماء


أراه دائما يجلس بعيدا شارد الذهن ولا يتحدث لأحد مطلقا .. فقط يجلس محدقا لتلك الجبال القطنية الشاهقة البياض وهي طافية في تلك المساحة الزرقاء الواسعة المترامية الأطراف المسماة بالسماء لا أنكر أن منظر السحب البيضاء في تلك اللحظة يشد انتباه أشد الغافلين بسبب منظرها الساحر الذي يخطف الأنظار وبسبب ضوء غروب الشمس الذي يضفي عليها ويطعمها بذلك اللون الذهبي الرائع المائل إلى الحمرة .. ولكن منظر ذلك الشاب أثار انتباهي وفضولي أكثر من ذلك المنظر الساحر الجمال !!

وصل بي الفضول لدرجة أني لم أستطع منع نفسي من الذهاب إليه لأسأله عن سبب وحدته وانعزاله وبقائه محدقا للسماء لفترات طويلة وتغير ملامح وجهه من وقت لآخر ..
ولكني لم أعرف كيف أفاتحه وأبدأ سؤالي له عن شيء لربما يكون ذا صلة بإحدى أموره الشخصية أو أن يكون إحدى تلك الأمور التي لا يريد أن يتناقش فيها مع أحد ولكنه يريد فقط أن يستأثر بها لنفسه فلا يفضي بها لمخلوق سوى شخص يثق به ويطمئن له ...

ظللت أتسائل كيف أفاتحه في ذلك الموضوع وأنا أسير تجاهه وقد عزمت على معرفة ذلك السر الكبير الذي يخفيه !! راودتني العديد من الأفكار ولكني لم أجد أي فكرة منهن تصلح لأن أطبقها !! ها أنا ذا وقد وصلت إليه لأجده قد ارتبك عندما رآني وكأنه يريد أن يخفي شيئا ولا يريدني أن أعرفه !! اقتربت منه وألقيت عليه التحية فبادلني بها بكل لطف ومن ثم جلست معه وتناولت معه بعض أطراف الحديث ليتعرف كل منا على الآخر أكثر من ذي قبل ..

وبينما كنت أتحدث معه في أمور الحياة وجدت نفسي لم أعد أطيق تحمل فضولي فلقد فاض بي وقد ظهر علي عدم تحملي ..

وجدته يسألني :

- ما بك .. منذ بداية حديثنا و أنا أعرف أنك لم تأت إلى هنا هباء وأنك تريد أن تسألني عن شيء ما .. فما هو ؟!
- أجبته بسؤال آخر وقد أصابتني بعض الدهشة : وكيف عرفت هذا
- واضح من طريقة قدومك إلي وأنت تعتريك بعض علامات الاستفهام والاستفسار وأيضا من خلال حديثنا فقد كنت تسأل عن أمور محدده لا يسأل عنها إلا من يريد أن يصل إلى شيء معين !!
- اسمح لي أن أعبر لك عن إعجابي بذكائك وفطنتك .. فعلا منذ مجيئي وأنا أريد أن أستفسر عن شيء ما !! بل ما أريد أن أعرفه هو سبب مجيئي لك منذ البداية !!
- إذن أخبرني عما تريد معرفته وسأجاوبك إن استطعت !!
- أريد أن أعرف سبب بعدك وعزلتك الدائمة ونظرك المستمر إلى السماء .. أجد حالك هذا مثيرا للتساؤل ولم اقدر أن امنع نفسي عن سؤالك
- يجيبني مستهلا كلامه بابتسامة خفيفة ذات طابع ساخر : تلك مشكلة من مشاكلي وأحد الأمور التي كنت أفكر بها لعلني أجد لها حلا !!
- وهل تسمح لي بأن أعرف تلك المشكلة وتلك المشاكل الأخرى علني أساعدك في إيجاد حل لها ؟؟
- سأخبرك لأني أتوسم فيك خيرا .. ولعلني أجد حلا لحيرتي الدائمة والمستمرة لديك
- كلي آذان صاغية
- أول مشاكلي تلك التي أعاني منها وبسببها دائما أني لا أستطيع أن أخفي ما أضمر وما أكن بداخلي من مشاعر ولا أستطيع كبح جماحها ولا كتمانها !! لطالما عانيت الأمرين بسبب ذلك الأمر فقد أصابني الملل والإرهاق من كثير محاولاتي لإخفائها ومحاولة كتمانها .. ولكني لم أستطع ولن أستطيع !! فهذا ما قد اكتشفته مؤخرا وبعد عناء طويل
- صديقي العزيز .. هل تعلم سبب معاناتك من تلك المشكلة ؟؟ لقد نطقت به لتوك !! سبب معاناتك هو محاولاتك الجاهدة بأن تخفي ما بداخلك .. لم تريد إخفائها ؟؟ لم لا تطلق لها العنان فتترك لها الحرية للتنفس قليلا ؟؟ ليس من المخزي أن تكن مشاعرا لشخص ما !! ولكن المخزي هو أن تحاول أن تكتم تلك المشاعر وأن لا تعلنها على الملأ .. فلا أظن أنه من الخطأ أن تحب أحدا وتبوح له بمشاعرك
- نعم .. أعلم أنه ليس خزيا ولا خطئا أن أفعل ذلك .. ولكن ما يؤرقني هي مشكلتي الثانية !!
- وما هي .. وما دخلها بالتي سبقت ؟؟
- فيضحك ضحكة مدوية يسمعها البعيد قبل القريب ثم يقول : ما دخلها !! دعني أخبرك ما دخلها .. ما سأخبرك به الآن هو أساس ولب مشكلتي الأولى !! مشكلتي الكبرى تنحصر في أني أعرف نهايتي ونهاية مشاعري سواء أتكللت تلك المشاعر بالنجاح والقدرة على التواصل مع من أحب أم أصبح مصيرها الفشل
- وما هي تلك النهاية ؟!
- نهايتي هي العذاب المستمر !!
- أعذرني يا صديقي ولكني لم أفهمك ولم يصلني مرادك .. فمن الطبيعي ومن المتوقع أين يكون العذاب والمعاناة من نصيبك إن لم تصل إلى مرادك .. ولكني لم أفهم وأتعجب لقولك بأن مصير نجاحك أيضا هو العذاب !!! كيف تكون نهاية طريقين مختلفين ومتضادين في الاتجاه الوصول إلى نفس المكان !! هل تستطيع أن تفسر لي أكثر من ذلك ؟!
- سأحاول قدر المستطاع .. فما أحس به يصعب شرحه وتفسيره .. هل جربت من قبل وأن أحسست بأنك قوي وضعيف في ذات الوقت !! أو أنك سليم معافى وفي ذات الوقت تحس بالمرض الشديد وبأنك عليل !! أشعرت يوما بأنك مصاب وتنزف بغزارة ولكن من غير أن ترى أي قطرة دم !! إحساسي مشابه لذلك الوصف .. فكما قلت من المتوقع أن يكون نصيبي هو الشقاء الدائم والحزن المستمر وإن كان داخليا إن لم يكن مصير مشاعري تلك هو النجاح بسبب حزني ومعاناتي من بعدي عمن أكن له ذلك الكم الرهيب من المشاعر وبأني لن أكون له ولن يكون لي في يوم من الأيام . وفي نفس الوقت سيكون الشقاء طريقي إذا نجحت في الوصول إلى ما أريد .. فبسبب حبي له وما أكن له لن أستطيع أن أتحمل أن أراه تعيسا حزينا ولو للحظة واحدة ولا أن أراه في يوم من الأيام وهو مريض طريح الفراش ولا أستطيع مساعدته على الشفاء .. لن أستطيع أن أرفض له طلبا عندما يطلبه مني حتى وإن لم يكن بمقدوري تلبية طلبه !! لن أستطيع أن أتجاهله في يوم من الأيام أو أن أكون بعيدا عنه بسبب مشاغل الحياة وهو محتاج لي في ذلك الوقت .. كل ما أقدر أن أوصله لك أني لن أستطيع أن أضمن له السعادة الأبدية وهذا ما يؤلمني .. أحس بأنه قد كتب علي بأن أعيش في تلك الحيرة وذلك العذاب منذ أن سمحت لنفسي بأن أحب هذا الشخص ولم أمنعها .. ولا أستطيع الآن أن أمانع فقد رفعت الأقلام وجفت الصحف !!
- لم أتخيل أني سأقابل إنسانا أو بشرا يحمل مثل تلك المشاعر الدافئة النقية الخالية من أي مصالح أو متطلعات دنيوية .. الآن فقط عرفت سر عزلتك ووحدتك ولا أستطيع أن ألومك على صمتك الدائم فما تحمله والذي بك أكبر من أن تشارك به أو أن تشغل به أحدا ممن حولك به .. فلن يستطيع كل من حولك أن يتفهمه .. والآن أيضا قد عرفت سبب نظرك الدائم إلى السحاب فربما تحس أنه يشبه مشاعرك وما تكنه لذلك الشخص في لونه الأبيض الشاهق وفي نقائه وفي تعقيده !!

وبعد أن حصلت منه على الإجابة التي أطفأت نار فضولي أجده ينهض ليرحل بعيدا ويتلاشى من أمام عيني شيئا فشيئا .. ولكني لم أفهم سبب مشاركته لي تلك المشاعر وكيف اطمئن لي بهذه السرعة وأشركني في مشاكله !! ولم أفهم سبب صمته المفاجئ ومن ثم رحيله بدون أي كلمة وداع !! هل أفهم من هذا أن لنا لقاءا آخر .. ربما !! ولكن .. بعد أن اختفى ذلك الشخص عن ناظري كليا إذا بي أجد أحد الأشخاص يوقظني من سباتي العميق !! لأجد نفسي في عالم آخر وفي مكان مختلف كل الاختلاف عن الذي كنت فيه من قليل .. بدأت بالسؤال لمن هم حولي عن مكان تواجدي وكيف وصل بي الحال لهنا لأكتشف أني لم أذهب إلى أي مكان ولم ألتق بأي شخص ولم أتكلم مع أحد .. فكيف أفعل هذا وقد كنت في غيبوبة طويلة ولم أفق منها إلا للتو .. وبدأت الرؤيا تتضح لي رويدا رويدا بأن ذلك الشخص الذي كنت أتحدث معه هو مجرد وهم قد نسجه عقلي الباطن ليخرجني من غيبوبتي الطويلة ولأفيق وأحاول أن أتدارك ما بقي من عمري وليكون لي كجرس إنذار بأن ما فات قد فات وأن المستقبل آت وألا أحاول أن أنظر للماضي وأتحسر عليه بل يجب أن أتعلم منه ومن أخطائه ..

في تلك اللحظة فقط فهمت ما قد قصده ذلك الشخص بجملته .. رفعت الأقلام وجفت الصحف .. فليس كل ما يشتهيه المرء واقع ولن تجري الرياح بما تشتهي السفن !! فكل شيء مقدر له أن يكون من قبل فسبحان من خلق فقدر ..

بعد أن استقرت حالتي وبعد مرور عدة أيام وبدأت تدريجيا بالقدرة على الحركة أردت أن أرى كيف هو شكلي وهل هو كما أتذكره أم لا !! أجاهد بشدة وبقوة لأستطيع أن أقف أمام مرآة صغيره معلقة على أحد جدران الغرفة الخاصة بي .. وبعد عناء طويل أصل إلى تلك القطعة الصغيرة من الزجاج والتي تعكس وتوضح الكثير والكثير !!

أقف أمامها لأجد شخصا لا أعرفه ولا أستطيع تمييز ملامح وجهه !! من هذا ؟؟ وما هذه التقاسيم الغريبة !! أهذ أنا ؟! كيف وصل بي الحال إلى هذا الوضع ؟! ولم لا أستطيع أن أميز ملامح وجهي ؟؟ مهلا !! من أنا ومن هذا الذي ينظر إلي في المرآة ؟! لا أتذكر شيئا بتاتا لما مضى من حياتي ولو جزء يسير أستدل به على شخصيتي وعلى هويتي !!

تعود بي الذاكرة بصعوبة إلى شكل ذلك الرجل الذي كنت أتحدث معه وعن ما كنا نتحدث .. لعلني أستطيع أن أجد بعض الدلالات أو بعض الكلمات التي قد تكون بمثابة منارة الإنقاذ لتعيدني إلى بر الأمان وإلى حياتي السابقة ..

فتذكرت ذلك الحديث الذي دار بيننا لأجد مزيدا من علامات الاستفهام ترتسم في رأسي !! إن كنت لا أستطيع أن أتذكر شيئا عن حياتي السابقة وعن هويتي ومن أكون !! فمن هو ذلك الشخص الذي كنا نتحدث عنه وأتذكره بتلك الطريقة وأكن له تلك المشاعر الدافئة ؟! من هو ذلك الشخص الذي قد ترك تأثيرا كهذا بي ؟!!

ليتني لم أفق من سباتي ذاك .. علني كنت جلست فترة أطول مع ذلك الرجل المجهول لأعرف مزيدا من الأجوبة .. لا أريد أن أعرف شيئا عن تفاصيل حياتي السابقة !! ولكن كل ما أريد أن أعرفه هو هوية من كان محور حديثنا كله ذلك الشخص الذي كنا نتكلم عنه بشغف !!

إحساس غريب يراودني بأن ذلك الشخص هو سبب ما أمر به الآن .. بأنه أيضا سيكون السبب الرئيسي في معرفتي السبيل الصحيح لمعرفة بقية ما أريد أن أتعرف عليه من أجوبة وتفاصيل ..

ولكن كيف أستطيع أن ألتقي ثانية بذلك الرجل ؟! وكيف أذهب مرة أخرى إلى ذلك المكان الهادئ ذو المنظر الساحر !! جلست أفكر كثيرا .. ولم أجد سوى طريقة واحدة غير مضمونة النجاح .. ولكن هي الطريقة الوحيدة والنتيجة التي توصلت إليها !!

سأذهب إلى ذلك الشيء المسمى بالسرير لعلني أجد في ذلك الفراش السبيل إلى أجوبتي .. ذهبت إلى فراشي واستلقيت عليه محاولا أن أستغرق في النوم لعلني ألتقي به مرة أخرى .. ها أنا ذا أغلق عيني لأحس بالظلام وقد بدأ يسيطر على المكان وبالصمت وهو يسود الأرجاء .. تركت نفسي وحاولت جاهدا أن أوقف عقلي عن التساؤل .. لربما يكون هذا هو سبيلي الوحيد إلى ما مضى !!

0 عجبهم كلامي:

عزبتي ع الفيس بوك

مين أنا ؟؟

صورتي
ب اختصار .. شاب مع وقف التنفيذ !!

مدونات بتابعها

ملامح زواري

شرفني لحد دلواقتي

تابعني ع الفيس بوك